فصل: الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات

الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليم ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والانحاء في العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصرمسأئله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن‏.‏ فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم‏.‏ وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريباً للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم‏.‏ وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم كما سيأتي‏.‏ ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعل بتتمع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها‏.‏ لأن ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة مايقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة‏.‏ وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها‏.‏ ‏"‏ ومن يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

  الفصل السابع والثلاثون وطريق إفادته

اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب‏.‏ ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه حتى ينتهي إلي آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة‏.‏ وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله‏.‏ ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته‏.‏ ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته‏.‏ هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات‏.‏ وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه‏.‏ وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً‏.‏ ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية‏.‏ ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن‏.‏ وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهوحينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه‏.‏ وإنما أتى ذلك من سوء التعليم‏.‏ ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره‏.‏ لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجزعن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم‏.‏ والله يهدي من يشاء‏.‏ وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها‏.‏ وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل توسيت الملكة الناشئة عنه‏.‏ والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏.‏ ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معاً ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة‏.‏ وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله‏.‏ والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب‏.‏ الفكر الإنساني واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلفيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة‏.‏ وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الماغ‏.‏ تارة يكون مبدءاً للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدءاً لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوجه إلى المطلوب‏.‏ وقد يصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحداً‏.‏ وينتقل إلى تحصيل وسط آخر إن كان متعدداً ويصير إلى الظفر بمطلوبه‏.‏ هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشرمن بين سائر الحيوانات‏.‏ ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه‏.‏ لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما ومن اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتائج فتعين المنطق على التخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض‏.‏ فالمنطق إذا مر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر‏.‏ ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى‏.‏ ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فتفضي بهم لطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه‏.‏ ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعليم وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان فأولاً‏:‏ دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناضة المنطق ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه‏.‏ وليس كل أحد يتجاوز هذه للمراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات فقعد عن تحصيل المطلوب‏.‏ ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلاً ممن هداه الله‏.‏ فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أوتشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه‏.‏ وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظار قبلك متعرضاً للفتح من الله كما فتح عليهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون‏.‏ فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر وفطرك عليه كما قلناه‏.‏ وحينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان‏.‏ وأما إن وقفت عند المناقشة في الألفاظ والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله‏.‏ وهذا شأن الأكثر من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت على ذهنه أو من حصل له شغف بالقانون المنطقي وتعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها‏.‏ والذريعة إلى إدرك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى‏.‏ وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر‏.‏ فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب‏.‏ واللة الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله‏.‏

  الفصل الثامن والثلاثون

اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين‏:‏ علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة‏.‏ وربما كان آلة لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين‏.‏ فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة‏.‏ وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط‏.‏ ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج بها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير‏.‏ فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها‏.‏ وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يغني‏.‏ وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق لا بل وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلاً واستدلالاً وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها‏.‏ وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بهذه الآلات والوسائل‏.‏ فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده‏.‏ فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل ورأى من نفسه قياماً بذلك وكفاية به فليختر لنفسه ما شاء من المراقي صعباً أو سهلاً‏.‏ وكل ميسر لما خلق له‏.‏

  الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه

اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث‏.‏ وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات‏.‏ وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات‏.‏ وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه‏.‏ واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات‏.‏ فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة‏.‏ وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة‏.‏ وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره‏.‏ فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم‏.‏ وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم‏.‏ إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم‏.‏ فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب‏.‏ ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم‏.‏ لكنهم ينقطعون عند ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول‏.‏ وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم‏.‏ وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك‏.‏ وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك‏.‏ وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها‏.‏ والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطونه بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان‏.‏ وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته‏.‏ فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها‏.‏ وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة فى اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في فصله‏.‏ وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل وممارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي‏.‏ وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها‏.‏ فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا‏.‏ ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتقديم العربية في التعليم ضرورة فساداً للغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه منه ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ‏"‏‏.‏ ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط‏.‏ هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقديم دراسة القرآن إيثاراً للتبرك أو الثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم‏.‏ فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلا يذهب خلواً منه‏.‏ ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ

  الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم

وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضمر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة‏.‏ ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله‏.‏ وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين‏.‏ وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمرة عليه‏.‏ ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به‏.‏ وتجد ذلك فيهم استقراء‏.‏ وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه‏.‏ فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب‏.‏ وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين‏:‏ ‏"‏ لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً ‏"‏‏.‏ ومن كلام عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ‏"‏‏.‏ حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته‏.‏ ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده‏.‏ قال خلف الأحمر‏:‏ بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال‏:‏ ‏"‏ يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين‏.‏ أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه‏.‏ ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه‏.‏ ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه‏.‏ وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة‏.‏ انتهى ‏"‏‏.‏ في أن الرحلة في طلب العلوم‏.‏ ‏.‏ ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه به من المذاهب والفضائل‏:‏ تارة علماً وتعليماً وإلقاءً وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة‏.‏ إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً‏.‏ فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها‏.‏ والاصطلاحات أيضاً في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم‏.‏ ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين‏.‏ فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل‏.‏ وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات‏.‏ ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم‏.‏ وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية‏.‏ فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال‏.‏ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏ في أن العلماء من بين البشر‏.‏ ‏.‏ أبعد عن السياسة ومذاهبها والسبب في ذلك أنهم معتادون النظم الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أموراً كلية عامة ليحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا آفة ولا صنف من الناس‏.‏ ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات‏.‏ وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي‏.‏ فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر‏.‏ أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية التي يطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج‏.‏ فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها‏.‏ والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية‏.‏ ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها‏.‏ ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر إذ كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم‏.‏ ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط‏.‏ والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج‏.‏ قال الشاعر‏:‏ فلا توغلن إذا ماسبحت فإن السلامة في الساحل فيكون مأموناً من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره باستقامة نظره‏.‏ وفوق كل ذي علم عليم‏.‏ ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مألوفة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنها نظر في المعقولات الثواني‏.‏ ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني‏.‏ وأما النظر في المعقولات الأول وهي التي تجريدها قريب فليس كذلك لإنها خيالية وصور المحسوسات‏.‏ حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏